فصل: باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الْجُمُعَةِ

باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبَو هُرَيْرَةَ‏:‏ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ الله عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ له، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ‏:‏ الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون‏)‏، يريد عليه السلام آخر الأنبياء والرسل، وهو خاتم النبيين لا نبى بعده، وقوله‏:‏ ‏(‏السابقون‏)‏، يعنى أن أمته يسبقون سائر الأمم بالدخول فى الجنة، وهو الشافع ليقضى بين الخلائق يوم القيامة إذا اشتد بالناس العرق، وطال بهم الوقوف، فيمشى حتى يأخذ حلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم‏.‏

وأيضًا فقد أخبر عليه السلام أن أمته أعطوا أجر أهل الكتابين‏:‏ التوراة، والإنجيل، فى حديث‏:‏ ‏(‏إنما مثلكم فيمن خلا من الأمم قبلكم‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هذا يومهم الذى فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له‏)‏، ليس فيه دليل أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل والله أعلم، أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وكُل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا فى أىّ الأيام يكون ذلك اليوم، ولم يهدهم الله إلى يوم الجمعة، وذخره لهذه الأمة، وهداهم له تفضلاً منه عليها؛ ففضلت به على سائر الأمم؛ إذ هو خير يوم طلعت فيه الشمس وفضله الله بساعة يستجاب فيها الدعاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بَيْد‏)‏، معناه‏:‏ ‏(‏غَيْر‏)‏، عند الخليل‏.‏

باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، فَنَادَاهُ عُمَرُ‏:‏ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ‏؟‏ فقَالَ‏:‏ إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ‏:‏ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ‏:‏ ‏(‏غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الغسل يوم الجمعة مرغب فيه مندوب إليه، وقد اختلف العلماء فى وجوبه، فذهبت طائفة إلى أنه ليس بواجب، يروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وجمهور العلماء‏.‏

وأوجب قوم الغسل فرضًا، روى ذلك عن أبى هريرة، وكعب، وعن سعد وأبى قتادة ما يدل على ذلك، وهو قول أهل الظاهر، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏غسل الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وحجة أهل المقالة الأولى‏:‏ قول عمر لعثمان‏:‏ ‏(‏والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل‏)‏، فدل ذلك أن الغسل الذى كان أمر به لم يكن عندهم على الوجوب، وإنما كان لما ذكرت عائشة، وابن عباس أن الناس كانوا عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم، فيؤذى بعضهم بعضًا بالروائح الكريهة، فقيل لهم‏:‏ لو اغتسلتم، فدل أن الأمر كان من رسول الله بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلةٍ، ثم ذهبت تلك العلة، فذهب الغسل، ولولا ذلك لما تركه عثمان، ولا سكت عمر أن يأمره بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، الذين سمعوا ذلك من النبى كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذى أراده فلم ينكروا عليه من ذلك شيئًا، ولم يأمروا بخلافه، ففى هذا إجماع منهم على نفى وجوب الغسل‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ودل ذلك أن أمره عليه السلام، بالغسل كان على وجه الندب والإرشاد، وقد جاءت روايات عن النبى، عليه السلام، تدل على ذلك، فروى شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل‏)‏‏.‏

ومعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏، يعنى‏:‏ واجب فى السنة وفى الأخلاق الكريمة، كما تقول‏:‏ وجب حقك وبرك، أى‏:‏ فى كرم الأخلاق، وقد تأتى لفظة على الوجوب لغير الفرض كما جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏الوتر واجب‏)‏، وجمهور الأمة أنه غير فرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏غسل الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏، يدل أنه لا تجب الجمعة على الصبى، وهذا إجماع، وكذلك أجمعوا أنه لا جمعة على النساء‏.‏

وقال المهلب‏:‏ قول عمر لعثمان‏:‏ ‏(‏والوضوء أيضًا‏)‏، يدل على إباحة الكلام فى الخطبة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأنه من باب الخطبة‏.‏

باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ أَبو سَعِيدٍ، أن النبى، عليه السلام، قَالَ‏:‏ ‏(‏الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ‏)‏‏.‏

قَالَ عَمْرٌو‏:‏ أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لا‏؟‏ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما الغسل فإنه واجب‏)‏، يعنى‏:‏ وجوب سنة على ما تقدم من الأدلة على ذلك، قال الطبرى، والطحاوى‏:‏ لما قرن رسول الله الغسل بالطيب يوم الجمعة، وأجمع الجميع على أن تارك الطيب يومئذ غير حرج إذا لم تكن له رائحة مكروهة يؤذى لها أهل المسجد، فكذلك حكم تارك الغسل؛ لأن مخرج الأمر من النبى، عليه السلام، بهما مخرج واحد، وكذلك أجمعوا أن أمره بالاستنان غير فرض، فكذلك الغسل والطيب، وإن كان العلماء يستحبون الطيب لمن قدر عليه، كما يستحبون اللباس الحسن، وكان ابن عمر يجِمّر ثيابه كل يوم جمعة، وقال معاوية بن قرة‏:‏ أدركت ثلاثين من مزينة كانوا يفعلون ذلك‏.‏

باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ، يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ‏:‏ مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ‏:‏ أَلَمْ تَسْمَعُ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ‏؟‏‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه الحض على الاغتسال للجمعة والتبكير إليها، وقوله‏:‏ ‏(‏كغسل الجنابة‏)‏، فإنما يعنى‏:‏ فى العموم والإسباغ لا فى الوجوب لما قدمناه قبل هذا‏.‏

واختلف العلماء فى الساعات المذكورة فى هذا الحديث التى يكون الرواح فيها، فذهبت طائفة إلى أنها من أول طلوع الشمس، هذا قول الكوفيين، والشافعى، وأجاز الشافعى البكور إليها قبل طلوع الشمس، وقال مالك‏:‏ لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، والذى يقع فى قلبى أنه أراد عليه السلام، ساعة واحدة فيها هذا التفسير‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وحجة مالك فى أن هذه الساعات كلها فى ساعة واحدة قولهم‏:‏ جئت من ساعة، وقعدت عند فلان ساعة، يريد به جزءًا من الزمان غير معلوم دون الساعات التى هى أوراد الليل والنهار وأقسامها‏.‏

واختار ابن حبيب القول الأول، واحتج له بأن ابن عمر سئل متى أروح‏؟‏ فقال‏:‏ إذا صليت الغداة فَرُحْ إن شئت، قال ابن حبيب‏:‏ وتأويل مالك محال وتحريف لوجه الحديث، وذلك أنه لا تكون ساعات فى ساعة واحدة، والشمس إنما تزول فى الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة‏.‏

وقول ابن حبيب خطأ لا خفاء به؛ لأن أهل العلم بالأوقات والحساب لا يختلفون أن الشمس إنما تزول فى أول الساعة السابعة، وتقع الصلاة إذا فاء الفىء ذراعًا وذلك فى الساعة الثامنة بعد مسير خمسها فى زمن الصيف، وبعد مسير نصفها فى زمن الشتاء‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومفهوم الرواح فى لسان العرب يرد قول ابن حبيب؛ لأنهم لا يسمون الرواح إلا عند الزوال والغدو فى أول النهار، ولا يسمّون الغدو رواحًا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏غدوها شهر ورواحها شهر‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏، فدل أن الغدو خلاف الرواح، والفرق بينهما مستفيض فى كلام الناس، والآثار الصحاح تشهد لقول مالك والفعل بالمدينة؛ لأنه أمر متردد فى كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء، وروى أشهب عن مالك قال‏:‏ التهجير إلى الجمعة ليس هو الغدو، ولم يكن الصحابة يغدون هكذا‏.‏

وروى الزهرى عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة، ثم الذى يليه كالمهدى بقرة، ثم الذى يليه كالمهدى كبشًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر الحديث‏.‏

والمهجر‏:‏ مأخوذ من الهاجرة والهجير، وذلك وقت المسير إلى الجمعة، ولا يجوز أن يسمى عند طلوع الشمس هاجرة ولا هجيرًا، وقال فى الحديث‏:‏ ‏(‏ثم الذى يليه‏)‏، ولم يذكر الساعات، فدل على صحة قول مالك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه دليل على أن المسارع إلى طاعة الله والسابق إليها أعظم أجرًا؛ ألا ترى أنه قد مثل ذلك بهدى البدنة، ثم الرائح بعده كمهدى البقرة إلى البيضة، فأراد عليه السلام أن يرى فضل ما بين البقرة والبدنة، ويدل على تفاوت ما بين السابق والمسبوق فى الفضل، وجعل الرواح إلى خروج الإمام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فإذا خرج الإمام طويت الصحف‏)‏، فدل على أنه من أتى والإمام فى الخطبة أن أجره أقل من أجر من أتى قبله؛ لأن الملائكة لم تكتبه فى صحفها، وإنما يكون له أجر من أدرك الصلاة لا أجر المسارع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حضرت الملائكة يستمعون الذكر‏)‏، يعنى‏:‏ الخطبة، وقد بين ذلك فى حديث ابن المسيب، عن أبى هريرة، وقال‏:‏ ‏(‏يستمعون الخطبة‏)‏‏.‏

وقد احتج بهذا الحديث من فضل البدن على البقر، والبقر على الضأن فى الضحايا، وهو قول الكوفيين والشافعى، واحتجوا بالإجماع على أن أفضل الهدايا‏:‏ الإبل، وقالوا‏:‏ ما استيسر من الهدى‏:‏ شاة، فدل ذلك على نقصان مرتبتها عما هو أعلى منها، وذهب مالك إلى أن أفضل الضحايا‏:‏ الضأن، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 107‏]‏، وهو كبش لا جمل ولا بقرة، وقال‏:‏ لو علم الله حيوانًا هو أفضل من الكبش لفدى به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من راح فى الساعة الرابعة كمن أهدى دجاجة، وفى الساعة الخامسة كمن أهدى بيضة‏)‏، واسم الهدى لا يقع على الدجاجة والبيضة، وأما الغنم فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم‏:‏ ليست بهدى والأكثرون منهم يجعلونها هديًا، وثمرة هذا الخلاف أن يوجب الرجل على نفسه هديًا، فإذا ذبح شاة أجزأه عن نذره فى قول من رآها هديًا، ولا يجزئه فى قول الآخرين إلا بدنة أو بقرة، ذكره الخطابى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أهدى دجاجة وبيضة‏)‏، فمن المحمول على حكم ما تقدمه من الكلام كقوله‏:‏ أكلت طعامًا وشرابًا، والأكل إنما يصرف إلى الطعام دون الشراب، إلا أنه لما عطف به على المذكور قبله حمل على حكمه كقولهم‏:‏ متقلدًا سيفًا ورمحًا، والرمح لا يتقلد إنما يحمل، ومثله‏:‏ زَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا، أى‏:‏ كحلن العيونا‏.‏

باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ الطُهْور، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، ويَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ طَاوُسٌ‏:‏ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ‏:‏ ‏(‏اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ‏)‏، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلا أَدْرِي‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الدهن يوم الجمعة كالطيب لها، وقد تقدم أن العلماء متفقون على استحبابه، وروى فى حديث سلمان أنه عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏إذا توضأ الرجل يوم الجمعة ولبس ثيابه، ثم أتى الجمعة وأنصت حتى تقضى الصلاة؛ غفر له من الجمعة إلى الجمعة‏)‏، فذكر مكان الغسل الوضوء رواه جرير بن حازم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن القرثع الضبى، عن سلمان‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه البيان أن الثواب الذى وصفه النبى، عليه السلام، إنما هو أن يشهد الجمعة بالصفة التى وصفها وأنصت لخطبة إمامه وقراءته فى صلاته دون من لم ينصت‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان كما وصفت، فما أنت قائل فيمن كان بهذه الصفة وكان من الإمام بحيث لا يبلغه صوته أو كان بحيث يبلغه صوته لو رفع، غير أن الإمام خفض صوته، فلم يسمع خطبته ولا قراءته، هل يستحق الثواب الذى ذكره النبى، عليه السلام، أم لا‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ إذا كان بعض هذه العلل فالله تعالى، أكرم من أن يحرم عبدًا له مطيعًا، انتهى فى أمره إلى ما أمر به، ثواب عمله بسبب مانع منعه إلى ما قصده وأراده‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبًا‏)‏، فإنه محمول عند الفقهاء على الاستحباب والندب كما تقدم فى باب فضل الغسل يوم الجمعة، وقال ابن المنذر‏:‏ أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون‏:‏ يجزئ غسل واحد للجنابة والجمعة‏.‏

وابن المنذر صاحب ‏(‏الإشراف‏)‏، هو القائل‏:‏ وروينا هذا عن ابن عمر، ومجاهد، ومكحول، ومالك، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وقال أحمد‏:‏ أرجو أن يجزئه، وهو قول ابن كنانة، وأشهب، وابن وهب، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، ورواه عن مالك، وهو قول المزنى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يجزئه غسل الجمعة عن غسل الجنابة حتى ينويها، هذا قول مالك فى المدونة وذكره ابن عبد الحكم، وذكر ابن المنذر عن بعض ولد أبى قتادة أنه قال‏:‏ من اغتسل للجنابة يوم الجمعة اغتسل للجمعة‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ لم يختلف قول مالك ومن علمت من أصحابنا، فيمن اغتسل للجنابة وهو ناسٍ للجمعة أن ذلك لا يجزئه عن غسل الجمعة، غير محمد بن عبد الحكم، فإنه قال‏:‏ غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة، ولا يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة، وقال الأبهرى‏:‏ إنما لم يجزئ غسل الجمعة عن الجنابة؛ لأن غسل الجنابة فرض، وغسل الجمعة مندوب إليه ليس بفرض وسيأتى معنى قوله‏:‏ ‏(‏فلا يفرق بين اثنين‏)‏ فى بابه‏.‏

باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ تَلَبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ‏)‏‏.‏

ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا‏)‏، فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا‏.‏

قوله فى الحلة‏:‏ ‏(‏فتلبسها للجمعة‏)‏، يدل أنه كان عندهم معهود أن يلبس الرجل أفضل ثيابه وأحسنها لشهود الجمعة، وقد روى عنه عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبى مهنته‏)‏، من بلاغات مالك عن يحيى بن سعيد‏.‏

وذكر أهل السير‏:‏ أن النبى عليه السلام، كان يلبس برده الأحمر يوم الجمعة وأحسن ثيابه، ويمس من الطيب، وكذلك فى العيدين‏.‏

قال عبد الرحمن بن أبى ليلى‏:‏ أدركت أصحاب محمد من أصحاب بدر، وأصحاب الشجرة إذا كان يوم الجمعة لبسوا أحسن ثيابهم وإن كان عندهم طيب مسُّوا منه، ثم راحوا إلى الجمعة‏.‏

والسيراء‏:‏ ثياب يخالطها حرير، يقال‏:‏ سيرت الثوب والسهم‏:‏ جعلت فيه خطوطًا، من كتاب ‏(‏العين‏)‏‏.‏

باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسٌ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ عليه السلام، إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إذا كانت الجمعة لها مزية فضيلة فى الغسل لها واللباس والطيب، وكان السواك مستحبًا لكل صلاة مندوبًا إليه، كانت الجمعة أولى بذلك‏.‏

وقال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لولا أن أشق على أمتى‏)‏، يدل أن السنن والفضائل ترتفع عن الناس إذا خشى منها الحرج عليهم، وإنما أكد فى السواك لمناجاة الله ولتلقى الملائكة لتلك المناجاة فلزم تطهير النكهة، وتطييب الفم‏.‏

باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ ‏(‏أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ‏)‏، فَأَعْطَانِيهِ، فَقَضَمْتُهُ، ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَنَّ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي‏.‏

وفيه‏:‏ الترجمة، وفيه‏:‏ طهارة ريق ابن آدم، وقد تقدم فى كتاب الطهارة‏.‏

باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يوم الْجُمُعَةِ‏)‏ الم تَنْزِيلُ ‏(‏، وَ‏)‏ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ‏}‏ ‏[‏الإنسان 1‏]‏‏)‏‏.‏

ذهب العلماء إلى القول بهذا الحديث، وأجازوا أن يقرأ سورة فيها سجدة فى الفجر يوم الجمعة، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عباس واستحبه النخعى، وابن سيرين، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا‏:‏ هو سنة، واختلف قول مالك فى ذلك فروى ابن وهب عنه أنه لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة، وروى عنه أشهب أنه كره للإمام ذلك إلا أن يكون من خلفه قليل لا يخاف أن يخلط عليهم‏.‏

وقال المهلب‏:‏ القراءة فى الصلاة كلها محمولة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقرءوا ما تيسر من القرآن‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، وإنما كره ذلك مالك خشية التخليط على الناس، ولذلك، والله أعلم، ترك النبى، عليه السلام، فى آخر فعله السجود فى المفصل؛ لأنه الذى يقرأ به فى الصلوات الخمس، وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب سجود القرآن، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ، فِي مَسْجِدِ عَبْدِالْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ‏)‏‏.‏

- وكَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، وهو بِوَادِي الْقُرَى‏:‏ هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ‏؟‏، وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ، فَكَتَبَ إليه ابْنُ شِهَابٍ أَنْ يُجَمِّعَ، قال‏:‏ وحَدَّثَنى سَالِم، عن أبيه، أَنَّ النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على وجوب الجمعة على أهل المدن، واختلفوا فى وجوبها على أهل القرى، فقال مالك‏:‏ كل قرية فيها مسجد أو سوق، فالجمعة واجبة على أهلها، وبه قال الشافعى وجماعة، وقال مالك، والشافعى‏:‏ لا تجب على أهل العمود، وإن كثروا؛ لأنهم فى حكم المسافرين‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى‏:‏ لا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار خاصة، وأحاديث هذا الباب حجة لمن أوجب الجمعة على أهل القرى‏.‏

وفى احتجاج ابن شهاب أن الجمعة على أهل القرى بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كلكم راع ومسئول عن رعيته‏)‏، حجة للكوفيين فى أن الجمعة لا تقوم إلا بالأمراء أو من أَذِنَ له الأمراء، وزعموا أن الإمام فيها شرط؛ لأن النبى، عليه السلام، صلى بهم يوم الجمعة وخلفاؤه بعده، وقال مالك، والشافعى‏:‏ تقوم الجمعة فى القرى والمدن بِوَالٍ أو غيره‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولو جاز أن يقول إن إقامة الجمعة بالنبى وخلفائه شرط لجاز أن يقول ذلك فى سائر الصلوات؛ لأنه عليه السلام، تولى سائر الصلوات بنفسه واستخلف أبا بكر الصديق، فكان يجب ألا تصلى صلاة إلا بسلطان أو إذنه، والجمعة لابد أن تفعل فى المسجد مع الأئمة، والجماعات فى الجمعة كما هى فى الأعياد والاستسقاء والخسوف والحج، وهى أعلام من الشرائع بكثرة الاجتماع لها، فجرت عادة السلطان بحضورها لمقاماتها، لا أن غير ذلك لا يجوز، كما فعل سائر الصلوات فى المسجد، وتوعد على تركها معه فى المسجد ولم يقل أن غير ذلك لا يجوز‏.‏

باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قال النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏

نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِيِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ لِمَ تَخْرُجِينَ، وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ فَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي‏؟‏، قَالَ‏:‏ يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما الصبيان فلا يلزمهم غسل الجمعة حتى يحتلموا كما قال النبى، عليه السلام، وقد استحب مالك أن يغتسل من حضر الجمعة من النساء والعبيد والصبيان، وهو قول الشافعى فى غير المحتلمين إذا شهدوا الجمعة، وروى عن طاوس وأبى وائل أنهما كانا يأمران نساءهما بالغسل يوم الجمعة، وأجمع أئمة الفتوى أن الصبيان والنساء لا تلزمهم الجمعة فسقط الغسل عنهم، وكذلك أجمع أئمة الفتوى أن المسافرين لا جمعة عليهم فلا غسل عليهم، وقد روى عن طلحة بن عبيد الله أنه كان يغتسل للجمعة فى السفر، وعن طاوس ومجاهد مثله، وقال أبو ثور‏:‏ لا يجب ترك ذلك‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من جاء منكم الجمعة فليغتسل‏)‏، يَرُدُّ هذا كله؛ لأنه عليه السلام شرط الغسل بشهود الجمعة، فمن لزمته الجمعة اغتسل، ومن سقطت الجمعة عنه سقط عنه الغسل كما قال ابن عمر، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد‏)‏، حجة فى أنه لا جمعة على النساء؛ لأنه عليه السلام جعل لأزواجهن الإذن لهم بالليل إلى المساجد ولا جمعة فى الليل، ولو لزمتهن الصلاة فى المساجد كما تلزم الرجال لما خص الليل دون النهار، ولم يخاطب أزواجهن بالإذن لهن؛ بل خاطبهن آمرًا لهن بذلك، وإن كان إجماع أئمة الفتوى الذين هم الحجة على أن النساء والصبيان لا جمعة عليهم يغنى عن إقامة الدليل عليه‏.‏

وكذلك حديث امرأة عمر أنها كانت تشهد العشاء والصبح فى جماعة يدل أن الصحابة فهمت إذن النبى، عليه السلام، للنساء بالصلاة فى الجماعة‏:‏ إنما أريد به الليل والغلس، على ما بوب له البخارى قبل هذا؛ فإن الجمعة لا إذن لهن فيها، والله الموفق‏.‏

واختلفوا فى وقت غسل الجمعة، وهل الغسل لأجل اليوم أو لأجل الصلاة، فقال أبو يوسف‏:‏ إذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث فتوضأ، ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة على غسل، قال أبو يوسف‏:‏ إن كان الغسل لليوم فإن اغتسل بعد الفجر، ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام، وإن كان الغسل للصلاة، فإنما شهد الجمعة على وضوء‏.‏

وذكر ابن المنذر عن مجاهد، والحسن البصرى، والنخعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، أنه من اغتسل بعد الفجر للجمعة أنه يجزئه من غسل الجمعة، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وقال مالك‏:‏ لا يجزئه إلا أن يكون غسلاً متصلاً بالرواح ولا يجزئ فى أول النهار‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من جاء إلى الجمعة فليغتسل‏)‏، وروى ‏(‏من راح إلى الجمعة فليغتسل‏)‏، يدل أن الغسل للرواح وقوله‏:‏ ‏(‏غسل الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏، و ‏(‏حق على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة أيام يومًا‏)‏، يدل أن المقصود به اليوم لا الرواح، والواجب حمل الأخبار على أن المقصود به الصلاة لا اليوم؛ لأن اليوم إنما ذكره لأن فيه الجمعة حتى تتفق معانى الأخبار؛ ولأنهم متفقون على أنه لو اغتسل يوم الجمعة بعد فوات الجمعة أنه غير مصيب لغسل يوم الجمعة، فدل أن المقصود بالغسل إلى الرواح لا إلى اليوم‏.‏

باب الرُّخْصَةِ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ

- فيه‏:‏ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أنه قال لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ‏:‏ إِذَا قُلْتَ‏:‏ ‏(‏أَشْهَدُ أَنَّ لا إلهَ إلا الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلا تَقُلْ‏:‏ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ‏:‏ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذلك، فقَالَ‏:‏ فَعَلَهُ مَنْ كَانَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى التخلف عن الجمعة للمطر، فممن كان يتخلف عنها لذلك‏:‏ ابن سيرين، وعبد الرحمن بن سمرة، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقالت طائفة‏:‏ لا يتخلف عن الجمعة للمطر، روى ابن نافع قال‏:‏ قيل لمالك‏:‏ أيتخلف عن الجمعة فى اليوم المطير، قال‏:‏ ما سمعت، قيل له‏:‏ فالحديث ‏(‏ألا صلوا فى الرحال‏)‏، قال‏:‏ ذلك فى السفر‏.‏

وقد رخص فى ترك الجمعة لأعذار أخر غير المطر، روى ابن القاسم عن مالك أنه أجاز أن يتخلف عن الجمعة لجنازة أخ من إخوانه لينظر فى أمره، قال ابن حبيب عن مالك‏:‏ وكذلك إن كان له مريض يخشى عليه الموت، وقد زار ابن عمر ابنًا لسعيد بن زيد ذكر له شكواه، فأتاه إلى العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء، والحسن، والأوزاعى، وقاله الشافعى فى الولد والوالد إذا خاف فوات نفسه، وقال عطاء‏:‏ إذا استصرخ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم إليه واترك الجمعة، وقال الحسن‏:‏ يرخص فى الجمعة للخائف‏.‏

وقال مالك فى ‏(‏الواضحة‏)‏‏:‏ ليس على المريض والصحيح الفانى جمعة، وقال أبو مجلز‏:‏ إذا اشتكى بطنه لا يأتى الجمعة، وقال ابن حبيب‏:‏ أرخص النبى، عليه السلام، فى التخلف عن الجمعة لمن شهد الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة لما فى رجوعهم من المشقة لما أصابهم من شغل العيد، وفعله عثمان لأهل العوالى واختلف قول مالك فيه‏.‏

باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ‏؟‏ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ‏؟‏

لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ، فَنُودِيَ بِالصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا، سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَم لَمْ تَسْمَعْهُ، وَكَانَ أَنَسٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ، وَأَحْيَانًا لا يُجَمِّعُ، وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ، فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ، يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة‏:‏ تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، روى ذلك عن أبى هريرة، وابن عمر، وهو قول عطاء، والأوزاعى، وأبى ثور، وقال الزهرى‏:‏ يجب على من كان على ستة أميال، وروى عنه أربعة أميال، وهو قول ربيعة، وقالت طائفة‏:‏ تجب الجمعة على من سمع النداء، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك فى ‏(‏المجموعة‏)‏‏:‏ عزيمة الجمعة على كل من كان فى موضع يسمع منه النداء، وذلك على ثلاثة أميال ومن كان أبعد فهو فى سعة، وقال فى ‏(‏المختصر‏)‏‏:‏ من كان على ثلاثة أميال أو زيادة يسيرة لزمتهم الجمعة، وقال الكوفيون‏:‏ لا تجب الجمعة إلا على أهل المصر، ومن كان خارج المصر فلا تجب عليه، وإن سمع النداء، وقال حذيفة‏:‏ ليس على من على رأس ميل جمعة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ نص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب على من سمع النداء، وإن كان خارج المصر وهذا أصح الأقوال‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ اعتل الكوفيون لقولهم أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر، قالوا‏:‏ لأن الأذان علم لمن لم يحضر، والأذان بعد دخول الوقت، ومعلوم أن من يسمع على أميال يأخذ فى المشى فلا يلحق، فيقال لهم‏:‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودى للصلاة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، أى‏:‏ إذا قرب وقت النداء لها بمقدار ما يدركها كل ساع إليها، فاسعوا، وليس على أنه لا يجب السعى إليها إلا حين ينادى لها، والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة كقوله‏:‏ ‏(‏إن ابن أم مكتوم لا ينادى حتى يقال له‏:‏ أصبحت أصبحت‏)‏، أى‏:‏ قارب الصباح ومثله‏:‏ ‏(‏فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، يريد إذا قاربن البلوغ؛ لأنه إذا بلغت آخر أجلها لم يكن له إمساكها، وفى إجماع العلماء على أن من كان فى طرف المصر العظيم، وإن لم يسمع النداء يلزمه السعى دليل واضح أنه لم يرد بالسعى حين النداء خاصة، وإنما أريد قربه، وأما من كان خارج المصر إذا سمع النداء فهو داخل فى عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، ولم يخص من فى المصر أو خارجه‏.‏

وأما حديث عائشة‏:‏ أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من العوالى، ففيه رد لقول الكوفيين أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر؛ لأنها أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا ينتابون الجمعة، فدل ذلك على لزومها ووجوبها عليهم‏.‏

قال محمد بن مسلمة‏:‏ ومما يبين أن الجمعة لازمة لأهل العوالى إذن عثمان لهم يوم العيد فى الانصراف ولولا وجوبها عليهم ما أَذِنَ لهم‏.‏

وما روى عن أنس أنه كان مرة يشهد الجمعة من الزاوية وهى على فرسخين من البصرة، ومرة كان لا يشهدها، والفرسخ ثلاثة أميال، ولو كان لازمًا عنده شهودها لمن كان على ستة أميال لما تركها بعض المرات‏.‏

واختلفوا فى عدد من تلزمهم الجمعة، فروى عن أبى هريرة أنها لا تنعقد إلا بأربعين نفسًا، هذا قول الشافعى، وزعم أن النبى، عليه السلام، جمع بأربعين، وذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن ثلاثين بيتًا وما قاربهم جماعة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ورأيت لمالك أنها لا تجب على الثلاثة والأربعة، ولكنها تنعقد بما دون الأربعين، وعن ربيعة أنها تنعقد باثنى عشر رجلاً عدد الذين بقوا مع النبى يوم انفضوا إلى العير، قال أبو حنيفة‏:‏ تنعقد بإمام وثلاثة أنفس، وهو قول الأوزاعى، والمزنى، والثورى، وقال أبو يوسف‏:‏ تنعقد بإمام ونفسين، وقال الحسن‏:‏ تنعقد بإمام وآخر معه‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ هذا الخلاف كله معارض لقول الشافعى، وليس أحد الأقوال أولى من صاحبه، فوجب الرجوع إلى صفة من خوطب فى الآية، والذين أمر الله بالسعى إليها فهم قوم لهم بيع وشراء، فوجب طلب قوم هذه صفتهم، ولسنا نعتبر عددًا حتى يصيروا به جماعة، ولكنا نقول‏:‏ كل قوم لهم مسجد وسوق ينطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم سواء كانوا خمسة أو أربعين؛ لأن المقادير والتحديدات فى الشريعة لا تثبت إلا من طريق صحيح، وقال المزنى‏:‏ لا يصح عن أصحاب الحديث ما احتج به الشافعى من أنه حين قدم المدينة جمع أربعين رجلاً؛ لأنه معلوم أن النبى، عليه السلام، قدم المدينة وقد تكاثر المسلمون وتوافروا فيجوز أن يكون جمع فى موضع نزوله قبل دخوله فى نفس المدينة، فاتفق له أربعون نفسًا‏.‏

باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَذَلِكَ يُذكر

عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ‏)‏‏.‏

- قال أنس‏:‏ كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما ذكر البخارى الصحابة فى صدر هذا الباب؛ لأنه قد روى عن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال من طريق لا يثبت، رواه وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابى، عن عبد الله بن سَيْدان السلمى قال‏:‏ شهدت الجمعة مع أبى بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر وعثمان إلى أن أقول‏:‏ انتصف النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره‏.‏

وعبد الله بن سيدان لا يعرف، والصحيح عن الصحابة ما ذكره البخارى، ونحوه ذُكر عن مالك عن عمر فى قصة طنفسة عقيل، وأجمع الفقهاء على أن وقت الجمعة بعد زوال الشمس إلا ما روى عن مجاهد أنه قال‏:‏ جائز أن تصلى الجمعة فى وقت صلاة العيد؛ لأنها صلاة عيد، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال، وهذا القول يرده حديث أنس المذكور فى هذا الباب وعمل الخلفاء بعده‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ لا تخلو الجمعة من أن تكون ظهرًا فوقتها لا يختلف، أو بدلاً من الظهر فيجب ألا يختلف أيضًا؛ لأن الأبدال لا تتقدم مبدلاتها، كالقصر فى السفر لا يخرج الصلاة عن أوقاتها‏.‏

وقوله‏:‏ كنا نبكر بالجمعة، فإنما يريد أنهم كانوا يصلونها بعد الزوال فى أول الوقت وهو وقت الرواح عند العرب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏نقيل بعد الجمعة‏)‏، يعنى أنهم كانوا يقيلون بعد الصلاة بدلاً من القائلة التى امتنعوا منها بسبب تبكيرهم إلى الجمعة، وقد ذكر ابن أبى شيبة فى حديث جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع أنهما قالا‏:‏ كنا نصلى مع رسول الله الجمعة إذا زالت الشمس‏.‏

باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ أَنَسَ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ برَدَ بِالصَّلاةِ- يَعْنِي‏:‏ الْجُمُعَةَ‏)‏‏.‏

وقَالَ أَبُو خَلْدَةَ‏:‏ ‏(‏صَلَّى بِنَا أَمِيرنا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لأنَس‏:‏ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي الظُّهْرَ‏؟‏‏)‏‏.‏

هذا الباب فى معنى الذى قبله أن الجمعة وقتها وقت الظهر، وأنها تصلى بعد الزوال يبرد بها فى شدة الحر، ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن الوقت، ومدار هذا الباب على ذكر الظهر؛ فإذا صح بهذا أن الجمعة هى الظهر لم يجز أن تصلى قبل الزوال كما زعم مجاهد وأحمد بن حنبل‏.‏

باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

وَمَنْ قَالَ‏:‏ السَّعْيُ‏:‏ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ؛ لِقَوْل اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء 19‏]‏، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ‏:‏ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ‏.‏

- فيه‏:‏ عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ‏:‏ أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ، وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَقَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِيِّ عليه السلام، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنتم تَسْعَوْنَ، وَائَتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا‏)‏‏.‏

- وقال أَبو قَتَادَةَ‏:‏ قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ السعى فى لسان العرب يصلح للإسراع فى المشى والاشتداد فيه، ويصلح للعمل والترسل فى المشى دون السعى، فمن السعى الذى هو بمعنى الإسراع قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، أى‏:‏ تسرعون، وائتوها تمشون عليكم السكينة‏)‏، وممن كان يسعى إذا سمع النداء‏:‏ أنس بن مالك‏.‏

وأما السعى الذى هو بمعنى العمل، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسعى لها سعيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏، يعنى‏:‏ وعمل لها عملها، وقوله‏:‏ ‏(‏وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏وأما من جاءك يسعى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 8‏]‏، هذه الآيات، لما علم أن المراد بها غير الجرى، على صحة هذا القول، وبأن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون، وعليكم السكينة‏)‏، أن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، غير الجرى، وكذلك قال الحسن فى تأويل هذه الآية‏:‏ أما والله ما هو بالسعى على الأقدام، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع‏.‏

وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء، وهو مذهب البخارى، وكان عمر وابن مسعود يقرأن‏:‏ ‏(‏فامشوا إلى ذكر الله‏)‏، وقال ابن مسعود‏:‏ لو قرأتها ‏(‏فاسعوا‏)‏ لسعيت حتى يسقط ردائى‏.‏

واختلفوا فى وقت تحريم البيع والشراء، فقالت طائفة‏:‏ هو زوال الشمس، وروى ذلك عن عطاء، والقاسم، والحسن، ومجاهد، وقالت طائفة‏:‏ هو عند النداء الثانى والإمام على المنبر، رواه ابن القاسم عن مالك، وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك‏.‏

واختلفوا فى البيع فروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وروى عنه ابن وهب، وعلى بن زياد‏:‏ بئس ما صنع ويستغفر الله، وقال عنه على‏:‏ ولا أرى الربح فيه حرامًا‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح، وإن لم يدخل، ولا تفسخ الهبة، والصدقة، والرهن، والحمالة، وقال أصبغ‏:‏ يفسخ النكاح، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى‏:‏ البيع صحيح، وفاعله عاصٍ لله؛ لأن النهى لم يقع على البيع، وإنما جرى ذكر البيع؛ لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والمعنى المقصود من ذلك كل ما يمنع من إثباتها، وقد أجمع العلماء على أن المصلى لا يحل له فى صلاته بيع ولا شراء، فلو قال رجل لآخر فى الصلاة‏:‏ بعنى سلعتك بكذا، فأجابه المصلى بنعم، أو بكلام ينعقد فيه البيع أن البيع جائز، وإن كان عاصيًا؛ لأن البيع معنى والصلاة غيره‏.‏

وقال الزهرى‏:‏ إذا سمع المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد، قال ابن المنذر‏:‏ وقد اختلف فيه عنه، وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على مسافر‏.‏

باب لا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ، أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يفرق بين اثنين‏)‏، يعنى لا يتخطى رقابهما، يدل على ذلك ما رواه ابن أبى خيثمة قال‏:‏ حدثنا محمد بن بكار، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا هشام بن زياد، عن عمار بن سعد، عن عثمان بن أبى الأرقم، عن أبيه، وكان من أصحاب النبى عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏الذى يتخطى رقاب الناس يفرق بين الاثنين يوم الجمعة بعد خروج الإمام كالجارِّ قصبه فى النار‏)‏‏.‏

وروى ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما‏)‏‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏لا يفرق بين اثنين‏)‏، حض على التبكير إلى الجمعة؛ ليصل إلى مكان مصلاه دون تخط ولا تفريق بين اثنين‏.‏

اختلف العلماء فى التخطى، فكرهه أبو هريرة، وسلمان، وكعب، ورواه ابن أبى شيبة عن أبى هريرة قال‏:‏ لأن أصلى بالحرة أحب إلىّ من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وعن سعيد بن المسيب مثله، وقال كعب‏:‏ لأن أدع الجمعة أحب إلى من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وقال سلمان‏:‏ إياك والتخطى واجلس حيث بلغتك الجمعة، وهو قول عطاء، والثورى، وأحمد بن حنبل‏.‏

وفيه قول ثان‏:‏ قال قتادة‏:‏ يتخطاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعى‏:‏ يتخطاهم إلى السعة، وهذا يشبه قول الحسن البصرى قال‏:‏ لا بأس بالتخطى إذا كان فى المسجد سعة، وقال الشافعى‏:‏ أكره التخطى قبل دخول الإمام وبعده إلا أن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بأن يتخطى فيسعه التخطى‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ روى عن أبى نضرة قال‏:‏ يتخطاهم بإذنهم، وكان مالك لا يكره التخطى إلا إذا كان الإمام على المنبر، ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فرج، وذكر الطحاوى عن الأوزاعى مثله، قال‏:‏ التخطى الذى جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب؛ لأن الآثار تدل على ذلك؛ ألا ترى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الذى يتخطى رقاب الناس فيفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه فى النار‏)‏، وقوله للذى يتخطى وهو يخطب‏:‏ ‏(‏آذيت وآنيت‏)‏‏.‏

باب لا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ‏:‏ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ‏:‏ الْجُمُعَةَ‏؟‏، قَالَ‏:‏ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا على العموم كما قال نافع، لا يجوز أن يقيم أحد أحدًا من مكانه؛ لأنه من سبق إلى موضع من مواضع الجماعات التى يتساوى الناس فيها فهو أحق به لبداره إليه‏.‏

باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ‏:‏ كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رسول الله وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ، وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب المؤذن الواحد يوم الجمعة‏)‏، وزاد فيه‏.‏

- عن السَّائِبِ قال‏:‏ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عليه السلام، مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ‏.‏

اختلف معنى قول مالك فى صفة الأذان يوم الجمعة، فروى عنه ابن عبد الحكم قال‏:‏ إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادى منع الناس من البيع تلك الساعة، وهذا يدل أن النداء عنده واحد على ما فى هذا الحديث، ونحوه عن الشافعى، وفى المدونة قال مالك‏:‏ إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون فى الأذان حرم البيع حينئذ، فذكر المؤذنين بلفظ الجمع، ونحوه عن الكوفيين، وقال مالك فى المجموعة‏:‏ إن هشام بن عبد الملك هو الذى أحدث الأذان بين يديه وإنما الأذان على المنار واحدًا بعد واحدٍ إذا جلس الإمام على المنبر‏.‏

واحتج الطحاوى بما رواه الزهرى عن ثعلبة بن أبى مالك القرظى أنهم كانوا فى زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون، بلفظ الجمع، وهذا كله يدل أنه إن أذَّن مؤذنون أو مؤذن أجزأ فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، أنه يدخل فى معناه أقل ما يقع عليه اسم نداء وهو مؤذن واحد‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن كان مؤذنًا واحدًا على ما روى الزهرى عن السائب فما معنى قوله فى آخر الحديث‏:‏ ‏(‏فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء‏)‏، وهذا يدل أن ثم أذانًا ثانيًا، وآخر الحديث مخالف لأوله‏.‏

قيل‏:‏ لا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما كان يؤذن المؤذن ثم يقيم والإقامة تسمى أذانًا، وقد بين ذلك ابن أبى شيبة فى ‏(‏مصنفه‏)‏ من رواية ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن السائب‏:‏ ‏(‏أن النداء كان أوله على عهد النبى، عليه السلام، وأبى بكر وعمر إذا خرج الإمام، وإذا قامت الصلاة، حتى إذا كان زمن عثمان وكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء، فثبت حتى الساعة‏)‏، فبان بهذا الحديث أن الأذان الثانى المتوهم فى حديث السائب إنما يعنى به‏:‏ الإقامة، ويشهد لصحة ذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏بين كل أذانين صلاة لمن شاء‏)‏، يعنى بين كل أذان وإقامة صلاة، وقد روى عقيل، عن ابن شهاب، عن السائب‏:‏ أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر الناس، ذكره البخارى فى باب الجلوس على المنبر عند التأذين بعد هذا فتكون الإقامة‏:‏ الأذان الثالث على هذا القول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كان التأذين حين يجلس الإمام على المنبر‏)‏، قال المهلب‏:‏ إنما جعل التأذين فى هذا الوقت، والله أعلم، ليعرف الناس بجلوس الإمام فينصتون له‏.‏

والزوراء‏:‏ حجر كبير عند باب المسجد‏.‏

باب يُجِيبُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ

- فيه‏:‏ مُعَاوِيَةَ‏:‏ ‏(‏أنه جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فقَالَ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ مُعَاوِيَةُ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ‏:‏ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ‏:‏ وَأَنَا، فَلَمَّا قَضَى التَّأْذِينَ، قَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذا الحديث إباحة الكلام للإمام على المنبر قبل أن يدخل فى الخطبة بما فيه تعليم الناس السنن؛ لأن القول مثل ما يقول المؤذن قد حض عليه النبى، عليه السلام، وقد تقدم فى أبواب الأذان اختلاف العلماء فيمن كان فى صلاة هل يقول مثل ما يقول المؤذن‏؟‏‏.‏

باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ

- فيه‏:‏ السَّائِبَ‏:‏ أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ، حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ، رواه عقيل عَنِ الزُّهْرِيِّ، وروى يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبَ‏:‏ ‏(‏فَلَمَّا كَانَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا، أَمَرَ بِالأذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ‏)‏‏.‏

الجلوس على المنبر إنما هو لمن يخطب عليه، ومن خطب فى الأرض، فإنما يجلس عند التأذين فى موضع خطبته وهذه الجلسة قبل التأذين وضعت له، وهى سنة عند مالك، والشافعى، وأبى ثور، ولذلك قال العلماء‏:‏ لا جلوس فى العيد قبل الخطبة؛ لأن العيد لا أذان فيه، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجلس الإمام قبل الخطبة، وخالف هذا الحديث‏.‏

باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، عَلَى الْمِنْبَرِ‏.‏

- فيه سَهْلَ‏:‏ أن النبى، عليه السلام، قال لامْرَأَةٍ‏:‏ ‏(‏مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ، إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَعَمِلَته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرَ قَالَ‏:‏ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عليه السلام، فَلَمَّا وُضِعَ الْمِنْبَرُ، سَمِع لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ عليه السلام، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ‏.‏

قال‏:‏ إذا كان الخليفة هو الذى يخطب، فسنته أن يجلس على المنبر إذا خطب، وإذا خطب غير الخليفة قام إن شاء على المنبر، وإن شاء على الأرض‏.‏

قال مالك‏:‏ ومن لا يرقى على المنبر عندنا، فمنهم من يقوم عن يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه وكل واسع، وروى أن أبا بكر الصديق نزل بعد النبى، عليه السلام، درجةً من المنبر تواضعًا منه، ولم ير نفسه أهلاً لموضع النبى، عليه السلام، وكذلك فعل عمر نزل بعد أبى بكر، فكان يخطب على الأولى، وكان المنبر من ثلاث درجات‏.‏

وجماعة الفقهاء على أن الخطبة من شرط الجمعة لا تصح إلا بها، ومتى لم يخطب الإمام صلى أربعًا، وشذ الحسن البصرى فقال‏:‏ تجزئهم جمعتهم خطب الإمام أو لم يخطب، ذكره ابن المنذر عنه، وذكر عبد الوهاب أنه قول أهل الظاهر‏.‏

ويرد قولهم أن النبى، عليه السلام، لم يجمع قط إلا بخطبة، نقل ذلك الكافة عن الكافة ومن لا يجوز عليه السهو، ولو كانت الجمعة تجزئ بغير خطبة لبين ذلك لأمته، وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ إنما قصرت الصلاة من أجل الخطبة، وقال سعيد بن جبير‏:‏ إن الخطبة جعلت مكان الركعتين‏.‏

وحديث جابر يعارض حديث سهل فى الظاهر؛ لأنه قال عليه السلام، فى حديث سهل‏:‏ ‏(‏مُرى غلامك النجار يعمل لى أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس‏)‏، فدل هذا أنه كان يخطب جالسًا، وقال جابر فى حديثه‏:‏ ‏(‏كان جذع يقوم إليه النبى، عليه السلام‏)‏، فدل هذا أنه كان يخطب قائمًا، والذى يجمع بين الحديثين وينفى التعارض أنه لم يحفظ عنه، عليه السلام، أنه خطب للجمعة قط إلا قائمًا، وقد قال بعض العلماء فى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركوك قائمًا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏، قال‏:‏ قائمًا يخطب، فيمكن أن يكون جلوسه فى حديث سهل إذا خطب الناس فى غير الجمعة لوعظ أو تعليم جلس على المنبر، وإذا خطب فى الجمعة قام، ويؤيد هذا حديث ابن عمر، وقد ترجم له باب الخطبة قائمًا‏.‏

وفى حديث جابر علم عظيم من أعلام نبوته، ودليل على صحة رسالته، عليه السلام، وهو حنين الجماد إليه وذلك بأن الله تعالى، جعل للجذع حياة حَنَّ بها، وهذا لا يجوز إلا أن يكون بفضل الله تعالى، الذى يحيى الموتى، بقوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏‏.‏

باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ بَيْنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الآنَ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الخطبة قائمًا، فقال مالك، والشافعى‏:‏ يخطب قائمًا، وقال أبو حنيفة‏:‏ إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، ذكره ابن القصار عنه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحديث عبد الله بن عمر يدل على صحة قول مالك؛ لأن قوله‏:‏ كان النبى، عليه السلام، يخطب قائمًا، ثم يقعد، ثم يقوم، يدل على تكرار فعله فى ذلك ودوامه، وأنه لم يخالف ذلك، ولا خطب جالسًا، وذكر ابن أبى شيبة عن طاوس، قال‏:‏ خطب رسول الله قائمًا، وأبو بكر قائمًا وعمر قائمًا وعثمان قائمًا، وأول من جلس على المنبر معاوية بن أبى سفيان‏:‏ وقال الشعبى‏:‏ إنما خطب معاوية قاعدًا حين كثر شحم بطنه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ رأيت للشافعى أنه إذا خطب قاعدًا ولم يعلموا أنه مريض حملوه على أنه معذور حتى يستيقنوا، فإن تبين لهم أنه خطب قاعدًا من غير عذر بطلت صلاتهم جميعًا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركوك قائمًا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏، وأن النبى لم يخطب قط إلا قائمًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والذى يقع فى نفسى أن القيام فى الخطبة واجب وجوب سنة لا أنه إن تركه فسدت الخطبة، ولا أنه مباح إن شاء فعله، وإن شاء تركه كما قال أبو حنيفة‏.‏

باب اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإمَامَ إِذَا خَطَبَ

وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ الإمَامَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبَو سَعِيدٍ‏:‏ ‏(‏أنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ‏)‏‏.‏

واستقبال الإمام للناس سنة لكل من يقابله، ومن لا يقابله فيصرف إليه وجهه، يدل على ذلك قول أبى سعيد‏:‏ ‏(‏وجلسنا حوله‏)‏، ولا يكون جلوسهم حوله إلا وهم ينظرون إليه، ومن أدبر عنه، فليس بمستمع له ولا مقبل عليه‏.‏

ومعنى استقبالهم له، والله أعلم، لكى يتفرغوا لسماع موعظته وتدبر كلامه ولا يشتغلوا بغير ذلك، وقال الشعبى‏:‏ من السنة أن يستقبل الإمام يوم الجمعة، وقال ابن المنذر‏:‏ استقبال الناس الإمام إذا خطب هو قول شريح، وعطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق، وهو كالإجماع، وروى وكيع عن أبان ابن عبد الله البجلى، عن عدى بن ثابت، قال‏:‏ ‏(‏كان النبى، عليه السلام، إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم‏)‏‏.‏

باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ

رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام‏.‏

- فيه‏:‏ أسماء فى حديث الكسوف‏.‏

- وفيه‏:‏ عمرو بن تغلب‏.‏

- وعائشة‏.‏

- وأبو حميد الساعدى‏.‏

- والمسور بن مخرمة‏.‏

- وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏صَعِدَ النَّبِيُّ عليه السلام، على الْمِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ، مُتَعَطِّفًا بمِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

وقال فى هذه الأحاديث كلها بعد الثناء على الله‏:‏ ‏(‏أما بعد‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ‏(‏أما بعد‏)‏ من فصيح الكلام، وهو فصل بين الثناء على الله تعالى، وبين ابتداء الخبر الذى يريد الخطيب إعلام الناس به، وقد قال بعض أهل التأويل فى قول الله تعالى، عن داود عليه السلام‏:‏ ‏(‏وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 20‏]‏، أنه‏:‏ أما بَعْد‏.‏

وقد اختلف العلماء فيما يجزئ من الخطبة، فذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون وأصبغ أنه تجزئه خطبة واحدة، ورواه مطرف عن مالك، وهو قول الأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، وإسحاق، وأبى ثور، قال ابن حبيب‏:‏ ولو لم يُتم الأولى وتكلم بما خف من الثناء على الله وعلى نبيه عليه السلام، لأجزأه‏.‏

وروى مطرف عن مالك فى مختصر ابن عبد الحكم‏:‏ إن سبح أو هلل وصلى على النبى، عليه السلام، فلا إعادة عليه، وقال الشعبى‏:‏ يجزئه ما قل وكثر، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجزئه إن خطب بتسبيحة واحدة، قال ابن حبيب‏:‏ روى ابن القاسم عن مالك أنه إن لم يخطب من الثانية ما لهُ بال لم يجزئهم وأعادوا، ونحوه قال الشافعى إلا أنه قال‏:‏ أقل ما يجزئ من الخطبتين جميعًا أن يحمد الله تعالى، ويصلى على الرسول، ويوصى بتقوى الله، ويقرأ آيات من القرآن فى الأولى، ويحمد الله ويصلى على النبى ويدعو فى الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عصابة دسمة‏)‏، فذكر أبو عمر المطرز أنها السوداء وذكره عن ثعلب، عن ابن الأعرابى قال‏:‏ ومنه حديث عثمان بن عفان، أنه مر ببعض طرقات المدينة فرأى صبيًا ومعه حشمة فقال‏:‏ دسموا نونته لكى لا تصيبه العين، معناه دسموا ذلك الموضع ليرد العين، والنونة‏:‏ النقبة التى تكون فى ذقن الصبى الصغير، وقال ابن دريد‏:‏ الدسمة‏:‏ غبرة فيها سواد، الذكر‏:‏ أدسم، والأنثى‏:‏ دسماء، وأنشد‏:‏

إلى كل دسماء الذراعين والعقب ***

ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب اللباس وقال‏:‏ عصابة دسماء، وقال أبو عمرو الشيبانى‏:‏ العصابة‏:‏ العمامة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإنما سميت العمامة عصابة؛ لأنها تعصب الرأس أى تربطه؛ ألا ترى قول الحجاج‏:‏ لأعصبنكم عصب السلمة، أى‏:‏ لأربطنكم ربط الشجرة‏.‏

باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الجلسة بين الخطبتين فعند مالك هى سنة، وعند الشافعى واجبة، فإن لم يخطب خطبتين يجلس بينهما صلى الظهر أربعًا، وعند أبى حنيفة إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، وروى عن المغيرة بن شعبة أنه كان لا يجلس فى خطبته‏.‏

وحجة من قال إنها سنة حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبى، عليه السلام، كان يجلس فى خطبته‏)‏، ولم يقل إنه لا تجزئه الخطبة إلا بالجلوس فيها؛ لأن عليه فرض البيان، ومن قال‏:‏ إنها فريضة فلا حجة له؛ لأن القعدة فصل بن الذِّكرين، واستراحة للخطيب، وليست من الخطبة فى شىء، والمفهوم من لسان العرب أن الخطبة اسم للكلام الذى يخطب به خاصة لا للجلوس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولم يقل بقول الشافعى أحد غيره، ولما كان لو خطب خطبتيه جميعًا قاعدًا جازت الخطبة، ولم يقع بينهما فصل، كذلك تجوز إذا قام موضع القعود‏.‏

قال غيره‏:‏ ولو كانت فريضة ما جهلها المغيرة بن شعبة، ولو جهلها ما ترك جماعة من بحضرته من الصحابة والتابعين تنبيهه عليها وإعلامه بوجوبها، وقد حُصِرَ عثمان عن الخطبة فتكلم ونزل ولم يجلس، ولم يخالفه أحد فصار كالإجماع، ذكره ابن القصار‏.‏

باب الاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ، كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ‏)‏‏.‏

استماع الخطبة واجب وجوب سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من جعله فريضة، روى عن مجاهد أنه قال‏:‏ لا يجب الإنصات للقرآن إلا فى موضعين فى الصلاة والخطبة‏.‏

وفى استماع الملائكة للخطبة حض على الاستماع إليها والإنصات لها، وقال أكثر العلماء‏:‏ الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها، وهو قول مالك، وقد قال عثمان بن عفان‏:‏ للمنصت الذى لا يسمع من الأجر مثل ما للمنصت الذى يسمع، وكان عروة بن الزبير لا يرى بأسًا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة، ذكره ابن المنذر، وقال إبراهيم‏:‏ إنى لأقرأ حزبى إذا لم أسمع الخطبة، وقال أحمد‏:‏ لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة‏.‏

واختلفوا فى وقت الإنصات، فقال أبو حنيفة‏:‏ خروج الإمام يقطع الكلام والصلاة جميعًا لقوله‏:‏ ‏(‏فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر‏)‏، وقالت طائفة‏:‏ لا يجب الإنصات إلا عند ابتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها هذا قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والأوزاعى، والشافعى، وحجتهم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وينصت إذا تكلم الإمام‏)‏، ذكره فى باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب بعد هذا‏.‏

باب إِذَا رَأَى الإمَامُ رَجُلا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ

- فيه‏:‏ جَابِرِ قَالَ‏:‏ ‏(‏جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ النَّاسَ، قَالَ‏:‏ صَلَّيْتَ يَا فُلانُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ قُمْ فَارْكَعْ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين‏)‏‏.‏

- وقال فيه‏:‏ فصل رَكْعَتَيْنِ‏.‏

اختلف العلماء فى معنى هذا الحديث، فقال قوم بظاهره وقالوا‏:‏ من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، وذلك سنة معمول بها، روى هذا عن الحسن، ومكحول وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وطائفة من أهل الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ قول ثان‏:‏ قال الأوزاعى‏:‏ من ركعهما فى بيته، ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن ركعهما ركعهما فى المسجد؛ لأنه عليه السلام إنما أمره بالركوع حين ذكر له أنه لم يصل فى بيته‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ قال أبو مجلز‏:‏ إن شئت فاركع وإن شئت فاجلس‏.‏

وفيها قول رابع‏:‏ أنه يجلس ولا يركع وهو قول الجمهور، ذكره ابن أبى شيبة عن عمر، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، ومن التابعين عن عطاء، والنخعى، وابن سيرين، وشريح، وعروة، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين‏.‏

واحتج بعض أهل هذه المقالة أن النبى، عليه السلام، إنما أمره بالصلاة لبذاذة هيئته؛ فأراد أن يفطن الناس له ويتصدقوا عليه، وروى ذلك ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عن أبى سعيد الخدرى‏:‏ ‏(‏أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله على المنبر، فأمره النبى، عليه السلام، أن يدنوا منه، فأمره أن يركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق، ثم صنع ذلك فى الثانية، فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل ذلك فى الجمعة الثالثة، فأمره النبى، عليه السلام، بمثل ذلك، وقال للناس‏:‏ تصدقوا، فألقى الثياب، فأمره النبى، عليه السلام، فأخذ ثوبين، فلما كان بعد ذلك أمر الناس أن يتصدقوا، فألقى الرجل أحد ثوبيه فغضب رسول الله ثم أمره أن يأخذ ثوبه‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد يجوز أن يكون النبى، عليه السلام، أمر سُليكًا بالصلاة فقطع خطبته ثم استأنف، وقد يجوز أن يكون بنى عليها، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام فى الصلاة، ثم نسخ الكلام فى الصلاة فنسخ أيضًا فى الخطبة، وقد يجوز أن يكون ما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولاً بها، فنظرنا هل روى شىء يخالف ذلك‏؟‏ فإذا بحر ابن نصر، حدثنا عن عبد الله بن وهب قال‏:‏ سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بُسر قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل فتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله‏:‏ اجلس فقد آذيت‏)‏، فأمره عليه السلام بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، وهذا يخالف حديث سليك، وكذلك حديث أبى سعيد الخدرى يدل أن ذلك كان فى حال إباحة الأفعال فى الخطبة قبل أن ينهى عنها، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه، والإمام يخطب مكروه وأن مسه الحصى، وقوله لصاحبه‏:‏ أنصت فى الخطبة مكروه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والدليل على أنه كان وقت إباحة الكلام فى الخطبة أنه ذكر فى حديث أبى سعيد الخدرى‏:‏ ‏(‏أن النبى، عليه السلام، أتى بالصدقة فأعطى منها رجلاً ثوبين، فلما كانت الجمعة طرح الرجل أحد ثوبيه فصاح الرسول به، وقال‏:‏ ‏(‏خذه، ثم قال‏:‏ انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وذكر الحديث، ولا نعلم خلافًا أن مثل هذا الكلام محظور فى الخطبة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا قلت لأخيك‏:‏ أنصت والإمام يخطب فى الخطبة فقد لغوت‏)‏‏.‏

ومن طريق النظر، فقد رأيناهم لا يختلفون أن من كان فى المسجد قبل أن يخطب الإمام، فإن الخطبة تمنعه من الصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك من دخل المسجد، والإمام يخطب ألا يصلى؛ لأنه داخل فى غير موضع صلاة، والأصل المتفق عليه أن الأوقات التى تمنع من الصلوات يستوى فيها من كان قبلها فى المسجد، ومن دخل فيها فى المسجد فى المنع من الصلاة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إنما أمره عليه السلام، أن يركع لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس‏)‏‏.‏

قيل له‏:‏ إنما هذا لمن دخل فى المسجد فى وقت تحل فيه الصلاة؛ ألا ترى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وفى الأوقات المنهى عن الصلاة فيها أنه لا ينبغى له الصلاة، وليس كمن أمره النبى، عليه السلام، بالركوع لدخوله المسجد‏.‏

قال غيره‏:‏ فى حديث جابر حجة لمن أجاز للخطيب يوم الجمعة أن يتكلم فى خطبته بما عرض له من كلام من غير جنس الخطبة بما فيه نفع للناس وتعليم لهم، وقد روى عن على بن أبى طالب ذلك حين تخطى الأشعث بن قيس رقاب الناس، ذكره الطبرى‏.‏

وفى ‏(‏المدونة‏)‏‏:‏ جائز أن يتكلم الإمام فى خطبته لأمر أو نهى، ولا يكون لاغيًا، ومن كلمه الإمام فرد عليه لم يكن لاغيًا‏.‏

باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ

- فيه‏:‏ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا رسول الله يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ، هَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ‏)‏‏.‏

- وزاد فيه‏:‏ ‏(‏حتَى سَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ‏)‏‏.‏

رفع اليدين فى الخطبة فى معنى الضراعة إلى الله والتذلل له، وقد أخبر النبى، عليه السلام، أن العبد إذا دعا الله تعالى، وبسط كفيه أنه لا يردهما خائبين من فضله، فلذلك رفع النبى عليه السلام، يديه‏.‏

وقد أنكر بعض الناس ذلك، فروى الأعمش، عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال‏:‏ رفع الإمام يوم الجمعة يديه على المنبر، فرفع الناس أيديهم، فقال مسروق‏:‏ ما لهم قطع الله أيديهم، وقال الزهرى‏:‏ رفع الأيدى يوم الجمعة محدث، وقال ابن سيرين‏:‏ أول من رفع يديه يوم الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر‏.‏

وكان مالك لا يرى رفع اليدين إلا فى خطبة الاستسقاء، وسيأتى هذا المعنى مستقصى فى كتاب الاستسقاء، إن شاء الله تعالى، ويأتى فيه تفسير ‏(‏الجوبة‏)‏‏.‏

وقوله فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏حتى سال الوادى قناة شهرًا‏)‏، فمعناه اسم الوادى ولم يصرفه؛ لأنه معرفة بدل من معرفة، وفى أبواب الاستسقاء ‏(‏حتى سال وادى قناة‏)‏ غير مصروف أيضًا؛ لأن قناة معرفة، وهى اسم البقعة، والجَوْدُ‏:‏ المطر الغزير، يقال‏:‏ جاد المطر جودًا أو جودة‏:‏ إذا كثر، وسيأتى حكم الاستسقاء فى خطبة الجمعة بعد هذا، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب الإنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإمَامُ يَخْطُبُ

وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَقَالَ سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ - فيه‏:‏ أَبَو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى عليه السلام، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالإمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ‏)‏‏.‏

اللغو‏:‏ كل شىء من الكلام ليس بحسن، عند أبى عبيدة‏.‏

وقال قتادة فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كرامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏، قال‏:‏ لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم‏.‏

وجماعة أئمة الفتوى على وجوب الإنصات للخطبة، وفى حديث سلمان حجة لمن رأى الإنصات عند ابتداء الخطبة وقد تقدم هذا، وقال ابن مسعود‏:‏ إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا، وروى عن عمر، وابن عمر، وابن عباس أنهم قالوا‏:‏ من قال لصاحبه اسكت فلا جمعة له، وقال ابن عباس‏:‏ الذى يتكلم والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ذكره ابن أبى شيبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا جمعة له‏)‏، أى لا جمعة كاملة مثل جمعة المنصت؛ لأن جماعة الفقهاء مجمعون أن جمعته مجزئة عنه، ولا يصلى أربعًا‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ من لَغَا كانت صلاته ظهرًا ولم تكن له جمعة وحُرِمَ فضلها‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ هل تعلم شيئًا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلى أربعًا من كلام أو تخطى رقاب الناس أو غير ذلك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وقد رخص جماعة من التابعين فى الكلام والإمام يخطب إذا كان من أئمة الجور أو أخذ فى خطبته فى غير ذلك، روى عن النخعى، والشعبى، وأبى بردة، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم‏:‏ إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا، وروى ابن أبى شيبة أن إبراهيم كُلِّم فى ذلك فقال‏:‏ إنى كنت قد صليت، ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الخطبة والموعظة أن يتكلم ولا ينصت‏.‏

وروى ابن وهب، وابن نافع، وعلى بن زياد، عن مالك أن الإمام إذا لغا وشتم الناس فعلى الناس الإنصات ولا يتكلمون، وروى عنه إذا خطب فى أمر ليس من الخطبة، ولا من الصلاة من أمر كتاب يقرؤه أو نحو ذلك، فليس على الناس الإنصات‏.‏

ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم ولا ينصت‏.‏

واختلفوا فى رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب فرخص فى ذلك النخعى، والشعبى، والحسن، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وكره ذلك مالك والكوفيون، والشافعى‏.‏

باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا‏)‏‏.‏

اختلف السلف فى هذه الساعة، فروى عن أبى هريرة قال‏:‏ هى من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس‏.‏

وقال الحسن، وأبو العالية‏:‏ هى عند زوال الشمس، وقال أبو ذر‏:‏ هى ما بين أن تزيغ الشمس بشبر إلى ذراع، وقالت عائشة‏:‏ هى إذا أذن المؤذن بالصلاة، وقال ابن عمر‏:‏ هى الساعة التى اختار الله فيها الصلاة، وهو قول أبى بردة، وابن سيرين، وقال أبو أمامة‏:‏ إنى لأرجو أن تكون فى هذه الساعات‏:‏ إذا أذن المؤذن، أو إذا جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة‏.‏

قال الشعبى‏:‏ هو ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وحجة هذا القول ما روى ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبى بردة بن أبى موسى قال‏:‏ ‏(‏قال لى عبد الله بن عمر‏:‏ سمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، سمعته يقول‏:‏ سمعت النبى، عليه السلام، يقول‏:‏ ‏(‏هى ما بين مجلس الإمام إلى تقضى الصلاة‏)‏‏.‏

وروى الأوزاعى عن من حَدَّثَهُ عن أبى الخير، عن على بن أبى طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا زالت الأفْيَاء وراحت الأرواح، فاطلبوا إلى الله تعالى حوائجكم، فإنها ساعة الأوابين، وإنه كان للأوابين غفورًا‏)‏‏.‏

وقال عبد الله بن سلام‏:‏ هى ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس، وروى مثله عن ابن عباس، وأبى هريرة، ومجاهد، وطاوس‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحجة من قال‏:‏ إنها بعد العصر قوله‏:‏ ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم‏)‏، فهو وقت العروج وعرض الأعمال على الله تعالى، فيوجب الله تعالى، فيه مغفرته للمصلين من عباده؛ ولذلك شدد النبى، عليه السلام، على من حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطى بها أكثر؛ تعظيمًا للساعة، وفيها يكون اللعان والقسامة، وقيل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏، أنها بعد العصر‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏وهو قائم يصلى‏)‏، قد فسرهُ عبد الله بن سلام لأبى هريرة فقال‏:‏ ألم يقل رسول الله‏:‏ ‏(‏من جلس ينتظر الصلاة فهو فى صلاة‏)‏، فقال أبو هريرة‏:‏ بلى، فقال‏:‏ هو ذاك‏.‏

وروى ابن أبى أويس عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن الثقة، عن صفوان بن سليم، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى قال‏:‏ قال النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏الساعة التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس أغفل ما يكون الناس‏)‏‏.‏

باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإمَامِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَصَلاةُ الإمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ

- فيه‏:‏ جَابِرُ قَالَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا، حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ‏:‏ ‏(‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا‏}‏ ‏[‏الجمعة 11‏]‏‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذا الحديث أنهم كانوا فى الصلاة حين أقبلت العير، روى حماد، عن يونس، عن الحسن‏:‏ أن النبى، عليه السلام، كان يخطب يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فابتدرها الناس، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر يسير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لو تتابعتم لسال بكم الوادى نارًا‏)‏، ونزلت هذه الآية‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ وقد وصف الله تعالى، أصحاب محمد بأنهم ‏)‏ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏، إلا أن يكون هذا الحديث قبل نزول هذه الآية‏.‏

قال المهلب‏:‏ يحتمل قول جابر‏:‏ ‏(‏بينما نحن نصلى مع النبى، عليه السلام‏)‏، أن يكون فى الخطبة كما قال الحسن؛ لأن من انتظر الصلاة فهو فى صلاة، ولا يظن فى الصحابة إلا حسن الظن‏.‏

واختلف العلماء فى الإمام يفتتح صلاة الجمعة بالجماعة، ثم يفترقون عنه، فقال الثورى‏:‏ إذا ذهبوا إلا رجلين صلى ركعتين، وإن بقى معه رجل واحد صلى أربعًا‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ إذا بقى معه واحد صلى الجمعة؛ لأنه قد دخل فى صلاة هى له ولهم جمعة، ورآه الشافعى، وقال أبو يوسف، ومحمد‏:‏ إذا افتتح الجمعة وكبر للإحرام، ثم نفروا كلهم صلى الجمعة وحده، وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا نفر عنه الناس قبل أن يركع ويسجد سجدة يستقبل الظهر، وإذا نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة‏.‏

وقال ابن القصار مثله عن مالك، وهو قول المزنى، وقال زفر‏:‏ إذا نفروا عنه قبل أن يجلس للتشهد بطلت صلاته؛ لأنه يراعى فيها الاجتماع إلى آخرها، وعن الشافعى روايتان‏:‏ إن بقى اثنان حتى تكون صلاته صلاة جماعة أجزأهم، والقول الآخر‏:‏ لا تجزئهم حتى يكونوا أربعين رجلاً‏.‏

وقال إسحاق‏:‏ إن بقى معه اثنا عشر رجلاً صلى الجمعة ركعتين على ظاهر هذا الحديث؛ لأن الذين بقوا مع النبى، عليه السلام، كانوا اثنى عشر رجلاً، وهذه المسألة فرع على اختلافهم فى عدد من تقوم بهم الجمعة، وقد تقدم‏.‏

والصحيح قول من قال‏:‏ إن نفروا عنه بعد عقد ركعة يسجد فيها أنه يصلى الجمعة ركعتين، لقول النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة‏)‏، فبان أن أدنى ما يقع به الاشتراك هو فعل الركعة، ولا يجوز أن يعتبر فى جواز البناء الدخول فى الجمعة وحده؛ لأن الإمام متى كَبَّر حصل دخوله فى الجمعة، وإن لم يصح له البناء عليها إلا بمشاركة المؤتمين، يبين هذا أنهم لو نفروا عنه، وقد كبر ولم يكبروا هم لم يصح أن يبنى الإمام على جمعته، فكذلك إذا نفروا بعد أن كبروا‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الجمعة قد استقرت بدخولهم فيها، فلا معتبر بعقد الركعة‏.‏

قيل‏:‏ إذا أدرك التشهد من الجمعة هو مدرك لتكبيرة الإحرام مع الإمام ولا يعتد بها، ولا يبنى عليها جمعة فسقط قولهم‏.‏

واحتج الطحاوى لأصحابه قال‏:‏ شرط صحة الجمعة الإمام والمأموم، فلما كان المأموم تصح له الجمعة، بأن يدرك بعض الصلاة مع الإمام وإن لم يدرك جميعها، كذلك ينبغى أن يصح للإمام مشاركة المأمومين له فى بعض صلاته‏.‏

باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ ‏(‏أَنَّ النبى، عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الصلاة بعد الجمعة فقالت طائفة‏:‏ يصلى بعدها ركعتين فى بيته كالتطوع بعد الظهر، روى ذلك عن ابن عمر، وعمران بن حصين، والنخعى، وقال مالك‏:‏ إذا صلى الإمام الجمعة فينبغى أن يدخل فى منزله ولا يركع فى المسجد، لما روى عن النبى، عليه السلام، أنه كان ينصرف بعد الجمعة ولم يركع فى المسجد، قال‏:‏ ومن خلفه أيضًا إذا سلموا فأحبّ إلىّ أن ينصرفوا ولا يركعوا فى المسجد، وإن ركعوا فذلك واسع‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يصلى بعدها ركعتين ثم أربعًا، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى موسى، وهو قول عطاء، والثورى، وأبى يوسف، إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين، وقال الشافعى‏:‏ ما أكثر المصلى بعد الجمعة من التطوع فهو أحب إلىّ‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يصلى بعدها أربعًا لا يفصل بينهن بسلام، روى ذلك عن ابن مسعود، وعن علقمة، والنخعى، وهو قول أبى حنيفة، وإسحاق‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبى، عليه السلام، كان لا يصلى بعد الجمعة إلا ركعتين فى بيته‏)‏، قال المهلب‏:‏ وهما الركعتان اللتان تصلى بعد الظهر فى سائر الأيام‏.‏

وكرر ابن عمر ذكرها من أجل أنه عليه السلام كان يصليها فى بيته، ووجه ذلك، والله أعلم، أنه لما كانت الجمعة ركعتين لم يصل بعدها صلاة مثلها خشية أن يظن أنها التى حذفت منها، وأنها واجبة، فلما زال عن موطن القصد صلى فى بيته، وقد روى ابن جريج عن عمر بن عطاء بن أبى الخُوار‏:‏ ‏(‏أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شىء رآه منه معاوية فى الصلاة، فقال‏:‏ نعم صليت معه الجمعة، فلما سلم الإمام قمت فصليت، فقال‏:‏ لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْهَا بصلاة حتى تكلم أو تخرج؛ فإن النبى، عليه السلام، أمرنا أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج‏)‏‏.‏

وروى الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق قال‏:‏ كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف، فقال عبد الله‏:‏ صَلُّوا فى رحالكم لئلا يراكم الناس فيرونها سنة، وقد أجاز مالك الصلاة بعد الجمعة فى المسجد للناس، ولم يجزه للأئمة‏.‏

وحجة أهل المقالة الثانية ما رواه أبو إسحاق عن عطاء قال‏:‏ صليت مع ابن عمر الجمعة، فلما سلم قام فركع ركعتين، ثم صلى أربع ركعات ثم انصرف، وما رواه سفيان، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على بن أبى طالب، أنه قال‏:‏ من كان مصليًا بعد الجمعة فليصل ستًا، ووجه قول أبى يوسف ما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر أن عمر بن الخطاب كره أن يصلى بعد صلاة مثلها‏.‏

ووجه أهل المقالة الثالثة ما رواه ابن عيينة، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا‏)‏‏.‏

وأما الصلاة قبل الجمعة فقد تقدم اختلاف العلماء فى الصلاة عند استواء الشمس فى أبواب أوقات الصلوات، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ‏}‏ ‏[‏الجمعة 10‏]‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَحْقَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا، فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ، ومَا كُنَّا نَقِيلُ وَلا نَتَغَدَّى إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ‏)‏‏.‏

- وزاد فيه‏:‏ عَنِ أَنَس قال‏:‏ ‏(‏كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ‏)‏‏.‏

والفقهاء متفقون على أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض‏}‏ ‏[‏الجمعة 10‏]‏، الإباحة؛ لأنه ورد بعد تقدم أمره بالسعى إلى الصلاة، وترك البيع؛ فأبان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏، زوال ما أوجب عليهم من السعى وترك البيع فى وقت الصلاة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وموافقة الحديث للترجمة وهو قوله‏:‏ ‏(‏كنا ننصرف من الجمعة فنسلم عليها، فتقرب إلينا ذلك الطعام‏)‏، ألا ترى أن انصرافهم بعد الجمعة لم يكن واجبًا عندهم، وإنما كانوا ينصرفون لما ذكره من الغداء، ثم القائلة عوضًا مما فاتهم من ذلك فى وقته، وهذا الحديث بين فى ردَّ قول مجاهد، وأحمد بن حنبل‏:‏ أن الجمعة تصلى قبل الزوال استدلالاً، بقوله‏:‏ ‏(‏وما كنا نقيل إلا بعد الجمعة‏)‏، ولا يسمى بعد الجمعة وقت الغداء، قبان أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة إنما كان عوضًا مما فاتهم فى وقته من أجل بدارهم بالسعى إلى الصلاة والتهجير إلى الجمعة، وعلى هذا التأويل جمهور الأئمة وعامة العلماء، فلا معنى للاشتغال بما خالفهم، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك من الحجة فى باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ الأربعاء الجداول واحدها ربيع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تحقل‏)‏ مأخوذة من الحقل، والحقل‏:‏ الزرع المتشعب الورق‏.‏

باب صَلاةِ الْخَوْفِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مُهِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قَالَ‏:‏ غَزَوْتُ مَعَ النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلاَم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ لم يذكر البخارى فى أبواب صلاة الخوف غير حديث ابن عمر هذا، وذكر فى كتاب المغازى حديث مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع‏:‏ ‏(‏أن طائفة صلت معه وطائفة وِجَاهَ العدو، فصلى النبى بمن معه ركعة ثم ثبت قائمًا، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصَفُّوا وِجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم‏)‏‏.‏

قال مالك‏:‏ هذا أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف، هكذا رواه البخارى عن قتيبة، عن مالك، وكذلك هو فى موطأ القعنبى، وابن بكير، وأبى مصعب، قال مالك‏:‏ وحديث يزيد بن رومان أحب ما سمعت إلىّ، وفى موطأ يحيى بن يحيى، قال مالك‏:‏ وحديث القاسم أحبّ ما سمعت إلىّ فى صلاة الخوف‏.‏

وذكر إسماعيل بن إسحاق، عن ابن وهب، عن مالك قال‏:‏ حديث يزيد أحب إلىّ، ثم رجع فقال‏:‏ يكون قضاؤهم بعد السلام أحبّ إلى على حديث القاسم، وذكر البخارى فى المغازى عن مسدد، عن يحيى القطان، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح ابن خوات، عن سهل بن أبى حثمة قال‏:‏ يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَلِ العدو ووجوههم إلى العدو فيصلى بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين فى مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك فيجىء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين‏.‏

هكذا رواه مسدد عن القطان، عن يحيى بن سعيد لم يذكر فيه سلام الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها، ولا ذكر سلام الرسول بالطائفة الثانية قبل أن تتم لأنفسها، وذكر مالك ذلك فى روايته عن يحيى بن سعيد، والزيادة من الحافظ مقبولة‏.‏

وذكر البخارى فى المغازى حديث جابر إلا أنه لم يسنده قال‏:‏ وقال أبان‏:‏ حدثنا يحيى ابن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن جابر قال‏:‏ ‏(‏كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبى أربع ركعات وللقوم ركعتان‏)‏‏.‏

وهذه الأحاديث كلها قد قال بها قوم من الفقهاء، وسأذكر أقوالهم بعد ذِكْرِى من قال بأحاديث ابن عمر المتقدمة فى هذا الباب‏.‏

فى حديث ابن عمر أن الطائفة الأولى التى صلى بها النبى، عليه السلام، ركعة لم تتم ركعتها الثانية إلا بعد سلام النبى، أنهم كانوا فى انصرافهم وِجَاهَ العدو فى حكم الصلاة، كذلك الطائفة الثانية قضوا ركعتهم بعد صلاة النبى أيضًا‏.‏

وقال بهذا أبو حنيفة، وأشهب صاحب مالك، والأوزاعى، ثم رجع فأخذ بحديث غزوة ذات الرقاع، قاله سحنون، إلا أن أبا حنيفة فرق بين الطائفة الأولى والثانية فى القراءة فى الركعة الثانية التى تقضيها فقال‏:‏ لا تقرأ الطائفة الأولى فيها؛ لأنها فى حكم صلاة الإمام حتى يصلى بالطائفة الثانية تمام صلاته، وقراءته فيها تُسقط عنهم القراءة، ثم يسلم وينصرف، والطائفة الثانية تقرأ لأنها تقضى بعد صلاة الإمام، ولم يتحمل عنهم القراءة، ولم يكونوا فى حكمه‏.‏

قالوا‏:‏ وحديث ابن عمر تشهد له الأصول المجتمع عليها فى سائر الصلوات أن المأموم لا يقضى إلا بعد سلام الإمام، وليس فى الأصول خروج المأموم قبل فراغ إمامه من صلاته التى افتتحها معه، وهم الطائفة الأولى على ما رواه مالك فى حديث ابن القاسم، وذلك يوجب انتظار الإمام فراغ المأمومين من صلاتهم، فيصير الإمام تابعًا لهم، ولا نظير لهذا فى الأصول‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فالجواب أن هذه الصلاة نفسها قد خرجت عن الأصول عند أبى حنيفة وعندنا؛ لأنه ليس فى الأصول أن المأموم ينصرف بعد ركعة فيعمل أعمالاً غير عمل الإمام ويذهب ويجىء ويستدبر القبلة حتى يفرغ الإمام من صلاته ثم يجىء فيتم بهم، ويقول إن الله تعالى، أمر نبيه أن يفرق الناس طائفتين، ويجعل لكل طائفة ركعتين، فينبغى أن يسوى بينهما، فلما قلتم وقلنا فى الطائفة الثانية أن ركعتها الثانية تكون خارجة من صلاة الإمام؛ وجب أن تكون الطائفة الأولى كذلك فتكون ركعتها الثانية خارجة عن حكم صلاة الإمام‏.‏

وقولنا‏:‏ يؤدى إلى الاحتراز من العدو؛ لأن الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها ومرت وجاه العدو واحتاجت إلى القتال فعلته، وهى فى غير صلاة وتمكنت بغير شغل قلب بالصلاة، وعندكم إن رمى واحد منهم بسهم أو قاتل بطلت صلاته، وهذا أضرّ على المسلمين من قولنا، وقد يحترز من العدو بالصياح والكلام ليعلم المصلين ما طرق من الحوادث وهذا خارج الصلاة أمكن، وأما حديث يزيد بن رومان فى أن الطائفة الأولى إذا صلى بها الإمام ركعة، فإنها تتم لنفسها بقية صلاتها وتسلم ثم تنصرف وجاه العدو، ثم تأتى الطائفة الثانية فيصلى بها الإمام ركعة، ثم يثبت الإمام حتى تقضى ركعتها الثانية ويسلم بهم، فقال به الشافعى، واختاره أحمد بن حنبل، وهو الذى رجع عنه مالك‏.‏

قال الشافعى‏:‏ والمصير إليه أولى من حديث القاسم؛ لأنه موقوف وحديث يزيد أشبه بظاهر كتاب الله، تعالى، واحتج الشافعى بأن الله تعالى، ذكر استفتاح الإمام ببعضهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك ‏(‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، وذكر انصراف الطائفتين والإمام من الصلاة معًا بقوله‏:‏ ‏(‏فإذا قضيتم الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، وذلك للجمع لا للتبعيض، ولم يذكر أن على واحد منهم قضاء، قال‏:‏ وفى الآية دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل فى الصلاة إلا بعد انصراف الطائفة الأولى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، دليل على أن الطائفة الأولى تنصرف، فلم يبق عليها من الصلاة شىء تفعله بعد الإمام‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ يقال للشافعى كلما أمكن أن لا تخرج الصلاة من الأصول فهو أولى، وفى الأصول سلام الإمام قبل أن يقضى المأموم صلاته، ولولا أن الضرورة دعت إلى أن تقضى الطائفة الأولى ما بقى عليها قبل فراغ الإمام لما جوزنا لها ذلك، ولا ضرورة بنا إلى أن تقضى الثانية باقى صلاتها قبل إمامها، ومبادرة الإمام أولى من بقائه لما يحدث ويشغل قلب صاحب الجيش أشد ممن يتبعه فيخفف عليه بالمبادرة بالسلام، وقوله‏:‏ ‏(‏فليصلوا معك ‏(‏، معناه ما بقى من صلاتك، ويقضون ما فاتهم، فأما أن يصلوا معه ما لم يصله معهم فمحال، وقوله‏:‏ ‏(‏فإذا قضيتم الصلاة ‏(‏لايقتضى أن يكون قضاء الجميع معًا، وإنما هو إخبار عما أبيح لهم فعله بعد الصلاة من ذكر الله وغير ذلك كما قال‏:‏ ‏(‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏، ولم يقتض ذلك بأن يكون قضاء مناسكهم معًا؛ لأن قضاء من تعجل فى يومين قبل قضاء من تأخر، وقد خاطب الله الجميع لا البعض‏.‏

وأما حديث القاسم فقد قال به مالك، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وفى رواية مالك أن سلام الطائفة الأولى إذا قضت ركعتها، وينصرفون إلى العدو وهم فى غير صلاة، ثم تصلى الطائفة الثانية ركعتها الأولى وراء الإمام، ثم يسلم الإمام ويتمون لأنفسهم بعد سلامه، وهو موافق لحديث يزيد إلا فى سلام النبى قبل أن تتم الطائفة الثانية ركعتها الثانية‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذه الصفة، أعنى حديث القاسم، هى الموافقة لكتاب الله تعالى، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ‏(‏، يعنى الباقين‏)‏ فإذا سجدوا ‏(‏، يعنى المصلين‏)‏ فليكونوا من ورائكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102، 103‏]‏، يعنى الذين هم مواجهة العدو، فاشترط الله تعالى، أن تكون إحدى الطائفتين فى غير صلاة مواجهين للعدو والثانية فى الصلاة، وقوله‏:‏ ‏(‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ‏(‏، يدل أن الأولى قد صلت تمام صلاتها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليصلوا معك ‏(‏، يقتضى بقية صلاة النبى، عليه السلام، كلها وإذا اقتضى ذلك وجب أن يسلم؛ لأن آخر صلاته السلام‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا أشبه بالأصول؛ لأن المأموم أبدًا إنما يقضى بعد فراغ إمامه وسلامه، فهو أولى على ما بيناه من حديث يزيد بن رومان‏.‏

وأما حديث جابر فقد حكى عن الشافعى أنه قال به، وقال‏:‏ صلاة الخوف يصلى الإمام بكل طائفة ركعتين، وهو على أصله فى جواز صلاة المفترض خلف المتنفل‏.‏

قال أصحابه‏:‏ هذا إذا كان فى سفر وهو مخير عنده فى السفر بين القصر والإتمام، ولم يحفظ عن النبى، عليه السلام، أنه صلى صلاة خوف قط فى حضر ولم يكن له حرب فى حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن نزلت صلاة الخوف بعدُ‏.‏

ودفع مالك، وأبو حنيفة هذا التأويل وقال أصحابهما‏:‏ إن النبى، عليه السلام، كان فى حضر ببطن النخل على باب المدينة، ولم يكن مسافرًا، وإنما كان خوف فخرج منه محترسًا، ولم ينقل عنه عليه السلام، سلام فى ركعتين بهم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وكذلك نقول‏:‏ إذا كان الخوف فى حضر أن يصلى بكل طائفة ركعتين، ولو ثبت أنه كان فى سفر فصلى بكل طائفة ركعتين لكان هذا خاصًا للنبى للفضيلة فى الصلاة خلفه‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا يصح أنه كان فى حضر؛ لأن جابرًا ذكر فى الحديث أنهم كانوا بذات الرقاع، وقد كانت صلاة الخوف نزلت‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ولا حجة لمن قال بهذا الحديث؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك من النبى، والفريضة تصلى مرتين فتكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل فى أول الإسلام ثم نسخ، وقد ذكرت الحديث بذلك فى باب إذا صلى ثم أمَّ قومًا عند حديث معاذ فى أبواب الإمامة قبل هذا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد روى عن جابر خلاف حديثه هذا المتقدم، روى شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال‏:‏ ‏(‏صلينا مع النبى، عليه السلام، صلاة الخوف فركع فى الصف المتقدم ركعة، وسجد سجدتين، ثم تأخروا، ثم تقدم الآخرون، فركع بهم ركع واحدة، وسجد سجدتين فكانت للنبى صلى الله عليه وسلم ركعتين وللناس ركعة ركعة‏)‏، وقد يجوز أن يكون النبى، عليه السلام، صلى على ما روى جابر مرتين على صفتين‏.‏

وقد قال أحمد بن حنبل‏:‏ أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون فى مرات مختلفة على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه، وهو قول الطبرى وطائفة من أهل الحديث‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحكى عن أبى يوسف والمزنى أنهما قالا‏:‏ صلاة الخوف منسوخة ولا يجوز أن تصلى بعد النبى، عليه السلام، وقالا‏:‏ إنما خاطب الله نبيه بذلك، فهو خاص له لا يشاركه فيه غيره؛ لأن فى صلاة الخوف تغيير هيئات لا تجوز إلا خلف النبى صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كونهم خلفه عوض من تغيير الهيئات، وكانت صلاة الخوف ثابتة فى الشريعة، ثم نسخت بدلالة تأخيره عليه السلام، الصلاة يوم الخندق عن وقتها إلى هوىّ من الليل ثم قضاها دفعةً، ثم قال‏:‏ ‏(‏ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا‏)‏، فلو جازت صلاة الخوف لم يكونوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهذا قول شاذ وجماعة الفقهاء على خلافه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومما يرد هذا القول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ الآية، فكان الخطاب هاهنا له، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به من بعده، كما كان يعمل به فى حياته‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وما ذكروه من النسخ بدلالة تأخيره يوم الخندق فهو قول من لا يعرف السنن، وذلك أن الله تعالى، أمر نبيه بصلاة الخوف بعد الخندق؛ لأن يوم الخندق كان سنة خمس وصلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع فى سنة سبع، فكيف يُنسخ الآخرُ بالأول وإنما يُنسخ الأول بالآخر، والصحابة أعرف بالنسخ من غيرهم وقد صلوا صلاة الخوف‏.‏

فأما قولهم‏:‏ إن فيها تغييرًا وترك الركوع والقبلة، فيقال لهم‏:‏ فى هذا ما أوجبه القرآن وفعله عليه السلام، ثم إن استدراك فضيلة الوقت مع تغيير الصفات أولى؛ ألا ترى عادم الماء أخذ عليه أن يصلى فى الوقت بالتيمم، ولم يرخص له فى تأخيرها عن وقتها حتى يجد الماء، فسقط قولهم‏.‏

باب صَلاةِ الْخَوْفِ رِجَالا وَرُكْبَانًا

- فيه‏:‏ نافع، عن ابْنِ عُمَرَ، نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ‏:‏ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا‏)‏‏.‏

أما صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، فلا تكون إلا إذا اشتد الخوف واختلطوا فى القتال، وهذه الصلاة تسمى صلاة المسايفة، فيصلى إيماءً وكيف تمكن، وممن قال بذلك ابن عمر ذكره عنه مالك فى الموطأ، إن كان خوفًا شديدًا صلوا قيامًا على إقدامهم أو ركبانًا مستقبلى القبلة أو غير مستقبليها، وهو قول مجاهد، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، والزهرى، وطائفة من التابعين، روى ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ إذا اختلطوا فإنما هو الذكر والإشارة بالرأس‏.‏

فمذهب مجاهد أنه يجزئه الإيماء عند شدة القتال كمذهب ابن عمر، وهو مذهب مالك، والثورى، والشافعى‏.‏

وقول البخارى‏:‏ وزاد ابن عمر عن النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏وإن كانوا أكثر فليصلوا قيامًا وركبانًا‏)‏، فإنما أراد أن ابن عمر رواه عن النبى، عليه السلام، وليس من رأيه، وإنما هو مسند، وكذلك قال مالك‏.‏

قال نافع‏:‏ ولا أرى عبد الله ذكر ذلك إلا عن النبى، عليه السلام‏.‏

وقول الشافعى فى ذلك‏:‏ لا بأس أن يضرب فى الصلاة الضربة الخفيفة ويطعن، وإن تابع الطعن أو الضرب أو عمل عملاً يطول بطلت صلاته‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وذهب قوم إلى أن الراكب لا يصلى الفريضة على دابته، وإن كان فى حال لا يمكنه فيها النزول، قال‏:‏ وذهب آخرون إلى أن الراكب إن كان يقاتل فلا يصلى، وإن كان راكبًا لا يمكنه النزول ولا يقاتل صلى‏.‏

قالوا‏:‏ وقد يجوز أن يكون النبى يوم الخندق لم يصل؛ لأن القتال عمل، والصلاة لا يكون فيها عمل، وذكر الطحاوى هذين القولين، ورد القول الأول بأن الرسول لم يكن صلى يوم الخندق؛ لأن صلاة الخوف لم تكن نزلت حينئذ، قال‏:‏ وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، عن سعيد المقبرى، عن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏صلى النبى صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق بعد المغرب بهوى من الليل كما كان يصليها فى وقتها، وذلك قبل أن ينزل الله عليه فى صلاة الخوف‏)‏ فرجالاً أو ركبانًا‏}‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فأخبر أبو سعيد أن تركهم الصلاة يومئذ ركبانًا، إنما كان قبل أن يباح لهم ذلك ثم أبيح لهم بهذه الآية، فثبت بذلك أن الرجل إذا كان فى الخوف لا يمكنه النزول عن دابته أن له أن يصلى عليها إيماءً، وكذلك لو أن رجلاً كان على الأرض خاف أن يفترسه سبع أو يضربه رجل بسيف فله أن يصلى قاعدًا إن كان يخاف ذلك فى القيام، ويومئ إيماءً، وذلك كله قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وكل ما فعله المصلى فى حال شدة الخوف مما لا يقدر على غيره، فالصلاة مجزئة عنه قياسًا على ما وضع عنه من القيام والركوع والسجود لعلة ما هو فيه من مطاردة العدو، وهذا أشبه بظاهر الكتاب والسنة مع موافقته للنظر‏.‏

وروى على بن زياد عن مالك، فيمن خاف أن ينزل عن دابته من لصوص أو سباع، فإنه يصلى عليها الفريضة حيث توجهت به ويومئ، وقاله أشهب‏.‏

باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاةِ الْخَوْفِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَامَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ، فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا، وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأخْرَى، فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث ابن عباس هذا إذا كان العدو فى القبلة من المسلمين، فإنه يجعل الناس صفين خلفه، فيركع بالصف الذى يليه ويسجد معه، والصف الثانى قائمون يحرسون، فإذا قام من سجوده إلى الركعة الثانية تقدم الصف الثانى وتأخر الأولون، فركع النبى بهم وسجد، والصف الثانى يحرسونهم، وهم كلهم فى صلاة، وقد روى هذا الحديث سفيان، عن أبى بكر بن أبى الجهم، عن عبيد الله، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن الرسول صلى بهم صلاة الخوف بذى قرد، والمشركون بينه وبين القبلة‏)‏، وقد روى نحوه عن أبى عياش الزرقى، وجابر بن عبد الله، عن النبى، عليه السلام، وبه قال ابن عباس‏:‏ إذا كان العدو فى القبلة أن يصلى على هذه الصفة، وهو مذهب ابن أبى ليلى، وحكى ابن القصار عن الشافعى نحوه‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان فى القبلة فالصلاة هكذا، وإن كانوا فى غير القبلة، فالصلاة كما روى ابن عمر وغيره، قال‏:‏ وبهذا تتفق الأحاديث، قال‏:‏ وليس هذا بخلاف للتنزيل؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، إذا كان العدو فى غير القبلة، ثم أوحى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا فى القبلة، ففعل الفعلين جميعًا كما جاء الخبران‏.‏

وترك مالك، وأبو حنيفة العمل بهذا الحديث لمخالفته لكتاب الله وهو قوله‏:‏ ‏(‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، والقرآن يدل على ما جاءت به الروايات فى صلاة الخوف عن ابن عمر وغيره، من دخول الطائفة الثانية فى الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك‏.‏

وقال أشهب وسحنون‏:‏ إذا كان العدو فى القبلة لا أحب أن يصلى بالجيش أجمع؛ لأنه يتعرض أن يفتنه العدو ويشغلوه، ويصلى بطائفتين سنة صلاة الخوف‏.‏

باب الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ

وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ‏:‏ إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإيمَاءِ، أَخَّرُوا الصَّلاةَ، حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا، لا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا، حَتَّى يَأْمَنُوا، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ‏.‏

وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ‏:‏ حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا‏.‏

قَالَ أَنَسُ‏:‏ مَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏.‏

- فيه‏:‏ جابر قال‏:‏ ‏(‏جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم‏:‏ وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ، قَالَ‏:‏ فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ، بَعْدَ مَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا‏)‏‏.‏

وأما الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو فهى صلاة حال المسايفة والقتال التى تقدم ذكرها فى باب صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، وحديث جابر فى هذا الباب هو حجة الأوزاعى، ومكحول أنه من لم يقدر على الإيماء أخر الصلاة حتى يصليها كاملة ولا يجزئ عنهم تسبيح ولا تهليل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخرها يوم الخندق، وإن كان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، فإن فيه من الاستدلال أن الله تعالى، لم يعب تأخيره لها لما كان فيه من شغل الحرب، فكذلك الحال التى هى أشد من ذلك، إلا أنه استدلال ضعيف من أجل أن سنة صلاة الخوف لم تكن نزلت قبل ذلك‏.‏

فأما قول الأوزاعى‏:‏ فإن لم يقدروا صلوا ركع وسجدتين، فقد روى مثله عن الحسن البصرى وقتادة، وهو قول مكحول، ويحتمل أن يقولوا ذلك من حديث أبى عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏صلاة الخوف ركعة‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وهذا الحديث يعارضه القرآن، وذلك أن الله، تعالى، قال فى كتابه‏:‏ ‏(‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ‏(‏إلى‏)‏ فليصلوا معك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، ففرض الله صلاة الخوف ونص فرضها فى كتابه هكذا، وجعل صلاة الطائفة الأخرى بعد تمام الركعة الأولى مع الإمام، فثبت بهذا أن الإمام يصليها فى حال الخوف ركعتين بخلاف هذا الحديث، وقد روى عبيد الله عن ابن عباس خلاف ما روى عنه مجاهد، وهذا الحديث الذى فى الباب قبل هذا، وأما التكبير فقد روى عن مجاهد أنه قال‏:‏ صلاة المسايفة بتكبيرة واحدة‏.‏

وعن سعيد بن جبير، وأبى عبد الرحمن قال‏:‏ الصلاة عند المسايفة تهليل وتسبيح وتحميد وتكبير، ذكره الفزارى فى السير، وذكر ابن المنذر عن إسحاق‏:‏ تجزئك ركعة تومئ بها، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة واحدة؛ لأنه ذكر لله‏.‏

وقال الحسن بن حى‏:‏ يكبر مكان كل ركعة تكبيرة‏.‏

وأما أئمة الفتوى بالأمصار فلا يجزئ عندهم التكبير من الركوع والسجود؛ لأن التكبير لا يسمى بركوع ولا سجود، وإنما يجزئ الإتيان بأيسرهما، وأقل الأفعال الثابتة عنهما الإشارة والإيماء الدال على الخضوع لله فيهما‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ ومعنى قول أنس‏:‏ ‏(‏فلم يقدروا على الصلاة‏)‏، فإنهم لم يجدوا السبيل إلى الوضوء من شدة القتال، فأخروا الصلاة إلى وجود الماء، ويحتمل أن يكون تأخير النبى، عليه السلام، الصلاة يوم الخندق حتى غربت الشمس؛ لأنه لم يجد السبيل إلى الوضوء، والله أعلم‏.‏

باب صَلاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً

قَالَ الْوَلِيدُ‏:‏ ذَكَرْتُ لِلأوْزَاعِيِّ صَلاةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ‏:‏ كَذَلِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَنَا الْفَوْتُ‏.‏

وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِه عَلَيهِ السَّلاَم‏:‏ لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحْزَابِ‏:‏ ‏(‏لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ‏)‏، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى صلاة الطالب على ظهر الدابة بعد اتفاقهم على جواز صلاة المطلوب راكبًا، فذهبت طائفة إلى أن الطالب لا يصلى على دابته وينزل ويصلى بالأرض، هذا قول عطاء، والحسن، وإليه ذهب الثورى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إلا فى حالة واحدة، وذلك أن يقطع الطالبون أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين إليهم، فإذا كان هذا هكذا كان لهم الإيماء ركبانًا‏.‏

وذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم قال‏:‏ صلاة الطالب بالأرض أولى من الصلاة على الدواب‏.‏

وفيها قول ثان قال ابن حبيب‏:‏ هو فى سعة، وإن كان طالبًا لا ينزل ويصلى إيماء؛ لأنه مع عدوه لم يصل إلى حقيقة أمن، وقاله مالك وهو مذهب الأوزاعى، وشرحبيل‏.‏

وذكر الفزارى عن الأوزاعى قال‏:‏ إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال؛ لأن الحديث جاء أن النصر لا يرفع ما دام الطلب‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وطلبت قصة شرحبيل بن السمط بتمامها لأتبين هل كانوا طالبين أم لا، فذكر الفزارى فى السير عن ابن عون، عن رجاء بن حيوة، عن ثابت بن السمط، أو السمط بن ثابت، قال‏:‏ كانوا فى سفر فى خوف فصلوا ركبانًا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصلاة، فقال‏:‏ خالف خولف به، فخرج الأشتر فى الفتنة‏.‏

فبان بهذا الخبر أنهم كانوا طالبين حين صلوا ركبانًا؛ لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلى إلا راكبًا، وإنما اختلفوا فى الطالب‏.‏

وأما استدلال الوليد بقصة بنى قريظة على صلاة الطالب راكبًا، فلو وجد فى بعض طرق الحديث أن الذين صلوا فى الطريق صلوا ركبانًا لكان بينًا فى الاستدلال، ولم يحتج إلى غيره، ولما لم يوجد ذلك احتمل أن يكون لما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بتأخير العصر إلى بنى قريظة، وقد علم بالوحى أنهم لا يأتونها إلا بعد مغيب الشمس، ووقت العصر فرض، فاستدل أنه كما ساغ للذين صلوا ببنى قريظة ترك الوقت وهو فرض ولم يعنفهم النبى، عليه السلام، فكذلك سوغ للطالب أن يصلى فى الوقت راكبًا بالإيماء، ويكون تركه للركوع والسجود المفترض كترك الذين صلوا ببنى قريظة الوقت الذى هو فرض، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، قاله المهلب‏.‏

قال‏:‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة‏)‏، فإنه أراد إزعاج الناس إليها لما كان أخبره جبريل أنه لم يضع السلاح بعد وأمره ببنى قريظة‏.‏

باب التَّبْكيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاةِ عِنْدَ الإغَارَةِ وَالْحَرْبِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ رَكِبَ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

السنة فى صلاة الصبح‏:‏ التغليس فى السفر كما فى الحضر‏.‏

قال المهلب‏:‏ وكانت عادته عليه السلام، التغليس بالصبح ولم يؤخرها عن ذلك إلا اليوم الذى علم الأعرابى الذى سأله عن وقت الصلاة‏.‏

وفيه‏:‏ أن التكبير عند الإشراف على المدن والقرى سنة، وكذلك عند رؤية الهلال وولادة الغلام؛ لأنه إعلام بما ظهر‏.‏

وتفاءل عليه السلام، لخبير بالخراب، من اسمها، على أهلها فكان كذلك، وكذلك كان يتفاءل بالأسماء التى يكون له فيها المحبوب، وكان يكره الطيرة ولم يكن هذا طيرة بالخراب؛ لأن الخراب لخيبر من سعادة النبى، عليه السلام، وأصحابه، فهو من الفأل الحسن‏.‏